{يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} حكايةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهِ الإجمالِ لما خُوطب به كلُّ رسولٍ في عصرِه، جيءَ بها إثرَ حكايةِ إيواءِ عِيْسى عليه السَّلامُ وأمِّه إلى الرَّبوةِ إيذاناً بأنَّ ترتيبَ مبادي التَّنعم لم يكن من خصائصِه عليه السَّلامُ بل إباحةُ الطَّيباتِ شرعٌ قديمٌ جرى عليه جميعُ الرُّسلِ عليهم السَّلامُ ووُصفوا به. أي وقُلنا لكلِّ رسولٍ كُلْ من الطَّيباتِ واعملْ صالحاً، فعبَّر عن تلك الأوامرِ المُتعدِّدةِ المتعلِّقةِ بالرُّسلِ بصيغةِ الجمعِ عند الحكايةِ إجمالاً للإيجازِ. وفيه من الدِّلالةِ على بُطلان ما عليهِ الرَّهابنةُ من رفضِ الطَّيباتِ ما لا يَخْفى. وقيل: حكايةٌ لما ذُكر لعيسَى عليه السَّلامُ وأمِّه عند إيوائِهما إلى الرَّبوةِ ليقتديَا بالرُّسلِ في تناولِ ما رُزقا. وقيل: نداءٌ وخطابٌ له والجمعُ للتَّعظيمِ. وعن الحسنِ ومُجاهدٍ وقَتَادةَ والسُّدِّيِّ والكَلْبيِّ رحمهم الله تعالى أنَّه خطابٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وحدَهُ على دأبِ العربِ في مخاطبةِ الواحدِ بلفظِ الجمعِ. وفيه إبانةٌ لفضلِه وقيامِه مقامَ الكلِّ في حيازةِ كمالاتِهم. والطَّيباتُ ما يُستطاب ويُستلذُّ من مباحاتِ المأكلِ والفواكِه حسبما يُنبىء عنه سياقُ النَّظمِ الكريمِ، فالأمرُ للتَّرفيهِ {واعملوا صالحا} أي عملاً صالحاً فإنَّه المقصودُ منكم والنَّافعُ عند ربِّكم {إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ} من الأعمالِ الظَّاهرةِ والباطنةِ {عَلِيمٌ} فأجازيكم عليهِ.{وَإِنَّ هذه} استئنافٌ داخلٌ فيما خُوطب به الرُّسلُ عليهم السَّلامُ على الوجهِ المذكورِ مسوقٌ لبيانِ أنَّ ملَّة الإسلامِ والتَّوحيدِ ممَّا أُمر به كافَّةُ الرُّسلِ عليهم السَّلامُ والأممِ. وإنَّما أُشير إليها بهذه للتَّنبيهِ على كمالِ ظُهور أمرِها في الصِّحَّة والسَّدادِ وانتظامِها بسببِ ذلكَ في سلكِ الأمور المُشاهَدةِ {أُمَّتُكُمْ} أي ملَّتُكم وشريعتُكم أيُّها الرُّسل {أُمَّةً وَاحِدَةً} أي مِلَّةً وشريعةً متَّحدةً في أصولِ الشَّرائعِ التي لا تتبدلُ بتبديلِ الأعصارِ. وقيل: هذه إشارةٌ إلى الأممِ المؤمنةِ للرُّسلِ، والمعنى إنَّ هذه جماعتُكم جماعةً واحدةً متَّفقةً على الإيمانِ والتَّوحيدِ في العبادةِ {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ} من غيرِ أنْ يكونَ لي شريكٌ في الرُّبوبيَّةِ. وضميرُ المُخاطَب فيه وفي قوله تعالى: {فاتقون} أي في شقِّ العَصَا والمخالفةِ بالإخلالِ بمواجبِ ما ذُكر من اختصاصِ الرُّبوبيةِ بي للرُّسلِ والأممِ جميعاً على أنَّ الأمرَ في حقِّ الرُّسلِ للتَّهييجِ والإلهابِ وفي حقِّ الأممِ للتَّحذيرِ والإيجابِ. والفاءُ لترتيبِ الأمرِ أو وجوبِ الامتثالِ به على ما قبلَه من اختصاصِ الرُّبوبيةِ به تعالى واتِّحادِ الأمَّةِ، فإنَّ كُلاًّ منهما موجبٌ للاتِّقاءِ حَتْماً. وقرئ: {وأنَّ هذه} بفتحِ الهمزةِ على حذفِ اللامِ أي ولأنَّ هذه أمَّتُكم أمةً واحدةً وأنا ربُّكم فاتَّقون أي إنْ تتَّقونِ فاتَّقونِ، كما مرَّ في قوله تعالى: {وإياى فارهبون} وقيل: على العطفِ على مَا، أي إنِّي عليمٌ بأنَّ أمَّتَكم أمَّةٌ الخ. وقيل: على حذفِ فعلٍ عاملٍ فيه أي اعلمُوا أنَّ هذه أمَّتُكم الخ. وقرئ: {وأنْ هذه} على أنَّها مخففةٌ مِن أنّ.