سورة المؤمنون - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المؤمنون)


        


{يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} حكايةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهِ الإجمالِ لما خُوطب به كلُّ رسولٍ في عصرِه، جيءَ بها إثرَ حكايةِ إيواءِ عِيْسى عليه السَّلامُ وأمِّه إلى الرَّبوةِ إيذاناً بأنَّ ترتيبَ مبادي التَّنعم لم يكن من خصائصِه عليه السَّلامُ بل إباحةُ الطَّيباتِ شرعٌ قديمٌ جرى عليه جميعُ الرُّسلِ عليهم السَّلامُ ووُصفوا به. أي وقُلنا لكلِّ رسولٍ كُلْ من الطَّيباتِ واعملْ صالحاً، فعبَّر عن تلك الأوامرِ المُتعدِّدةِ المتعلِّقةِ بالرُّسلِ بصيغةِ الجمعِ عند الحكايةِ إجمالاً للإيجازِ. وفيه من الدِّلالةِ على بُطلان ما عليهِ الرَّهابنةُ من رفضِ الطَّيباتِ ما لا يَخْفى. وقيل: حكايةٌ لما ذُكر لعيسَى عليه السَّلامُ وأمِّه عند إيوائِهما إلى الرَّبوةِ ليقتديَا بالرُّسلِ في تناولِ ما رُزقا. وقيل: نداءٌ وخطابٌ له والجمعُ للتَّعظيمِ. وعن الحسنِ ومُجاهدٍ وقَتَادةَ والسُّدِّيِّ والكَلْبيِّ رحمهم الله تعالى أنَّه خطابٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وحدَهُ على دأبِ العربِ في مخاطبةِ الواحدِ بلفظِ الجمعِ. وفيه إبانةٌ لفضلِه وقيامِه مقامَ الكلِّ في حيازةِ كمالاتِهم. والطَّيباتُ ما يُستطاب ويُستلذُّ من مباحاتِ المأكلِ والفواكِه حسبما يُنبىء عنه سياقُ النَّظمِ الكريمِ، فالأمرُ للتَّرفيهِ {واعملوا صالحا} أي عملاً صالحاً فإنَّه المقصودُ منكم والنَّافعُ عند ربِّكم {إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ} من الأعمالِ الظَّاهرةِ والباطنةِ {عَلِيمٌ} فأجازيكم عليهِ.
{وَإِنَّ هذه} استئنافٌ داخلٌ فيما خُوطب به الرُّسلُ عليهم السَّلامُ على الوجهِ المذكورِ مسوقٌ لبيانِ أنَّ ملَّة الإسلامِ والتَّوحيدِ ممَّا أُمر به كافَّةُ الرُّسلِ عليهم السَّلامُ والأممِ. وإنَّما أُشير إليها بهذه للتَّنبيهِ على كمالِ ظُهور أمرِها في الصِّحَّة والسَّدادِ وانتظامِها بسببِ ذلكَ في سلكِ الأمور المُشاهَدةِ {أُمَّتُكُمْ} أي ملَّتُكم وشريعتُكم أيُّها الرُّسل {أُمَّةً وَاحِدَةً} أي مِلَّةً وشريعةً متَّحدةً في أصولِ الشَّرائعِ التي لا تتبدلُ بتبديلِ الأعصارِ. وقيل: هذه إشارةٌ إلى الأممِ المؤمنةِ للرُّسلِ، والمعنى إنَّ هذه جماعتُكم جماعةً واحدةً متَّفقةً على الإيمانِ والتَّوحيدِ في العبادةِ {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ} من غيرِ أنْ يكونَ لي شريكٌ في الرُّبوبيَّةِ. وضميرُ المُخاطَب فيه وفي قوله تعالى: {فاتقون} أي في شقِّ العَصَا والمخالفةِ بالإخلالِ بمواجبِ ما ذُكر من اختصاصِ الرُّبوبيةِ بي للرُّسلِ والأممِ جميعاً على أنَّ الأمرَ في حقِّ الرُّسلِ للتَّهييجِ والإلهابِ وفي حقِّ الأممِ للتَّحذيرِ والإيجابِ. والفاءُ لترتيبِ الأمرِ أو وجوبِ الامتثالِ به على ما قبلَه من اختصاصِ الرُّبوبيةِ به تعالى واتِّحادِ الأمَّةِ، فإنَّ كُلاًّ منهما موجبٌ للاتِّقاءِ حَتْماً. وقرئ: {وأنَّ هذه} بفتحِ الهمزةِ على حذفِ اللامِ أي ولأنَّ هذه أمَّتُكم أمةً واحدةً وأنا ربُّكم فاتَّقون أي إنْ تتَّقونِ فاتَّقونِ، كما مرَّ في قوله تعالى: {وإياى فارهبون} وقيل: على العطفِ على مَا، أي إنِّي عليمٌ بأنَّ أمَّتَكم أمَّةٌ الخ. وقيل: على حذفِ فعلٍ عاملٍ فيه أي اعلمُوا أنَّ هذه أمَّتُكم الخ. وقرئ: {وأنْ هذه} على أنَّها مخففةٌ مِن أنّ.


{فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ} حكايةٌ لما ظهرَ من أممِ الرُّسلِ بعدَهم من مخالفةِ الأمرِ وشقِّ العَصَا. والضَّميرُ لما دلَّ عليه الأمةُ من أربابِها أو لها على التَّفسيرينِ والفاء لترتيبِ عصيانِهم على الأمرِ لزيادةِ تقبيحِ حالِهم أي تقطَّعوا أمرَ دينِهم مع اتِّحادِه وجعلُوه قِطعاً متفرِّقةً وأدياناً مُختلفةً {بَيْنَهُمْ زُبُراً} أي قطعاً جمعُ زَبُورٍ بمعنى الفُرقةِ ويؤيِّدُه قراءةُ زُبَراً بفتحِ الباءِ جمعُ زَبرةٍ وهو حالٌ من أمرَهم أو مِن واوِ تقطَّعوا، أو مفعولٌ ثانٍ له فإنَّه متضمِّنٌ لمعنى جعلُوا وقيل: كُتُباً فيكون مفعولاً ثانياً، أو حالاً من أمرَهم عَلَى تقدير المضافِ أي مثل زُبُرٍ. وقرئ بتخفيفِ الباءِ كرُسْلٍ في رُسُلٍ {كُلُّ حِزْبٍ} من أولئك المتحزِّبين {بِمَا لَدَيْهِمْ} من الدِّين الذي اختارُوه {فَرِحُونَ} مُعجَبون مُعتقِدون أنَّه الحقُّ.
{فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ} شُبه ما هُم فيه من الجهالة بالماء الذي يغمرُ القامةَ لأنَّهم مغمورون فيها لاعبون بها. وقرئ: {غَمَراتِهم}. والخطابُ لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، والفاءُ لترتيبِ الأمرِ بالتَّركِ على ما قبله من كونِهم فرحينَ بما لديهم فإنَّ انهماكَهم فيما هم فيه وإصرارَهم عليه من مخايل كونِهم مطبوعاً على قُلوبهم أي اتركْهُم على حالهم {حتى حِينٍ} هو حينِ قتلِهم أو موتِهم على الكُفرِ أو عذابهم فهو وعيدٌ لهم بعذابِ الدُّنيا والآخرةِ وتسليةٌ لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ونهيٌ له عن الاستعجالِ بعذابِهم والجزعِ من تأخيرهِ. وفي التَّنكيرِ والإبهام ما لا يخفى من التَّهويلِ.
{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ} أي نعطيهم إيَّاه ونجعلُه مدداً لهم. فما موصولةٌ. وقولهُ تعالى: {مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} بيانٌ لها، وتقديمُ المالِ على البنينَ مع كونِهم أعزَّ منه قد مرَّ وجهُه في سورةِ الكهفِ لا خبرٌ لأنَّ وإنَّما الخبرُ قولُه تعالى: {نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الخيرات} على حذفِ الرَّاجعِ إلى الاسمِ أي أيحسبون أنَّ الذي نمدُّهم به من المالِ والبنينَ نسارعُ به لهم فيما فيهِ خيرُهم وإكرامُهم على أنَّ الهمزةَ لإنكارِ الواقعِ واستقباحِه. وقولُه تعالى: {بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} عطفٌ على مقدَّرٍ ينسحبُ عليه الكلامُ أي كلاَّ لا نفعلُ ذلك بل هُم لا يشعرونَ بشيءٍ أصلاً كالبهائمِ لا فطنة لهم ولا شعورَ ليتأمَّلوا ويعرفُوا أنَّ ذلكَ الإمدادَ استدراجٌ لهم واستجرارٌ إلى زيادةِ الإثمِ وهُم يحسبونَهُ مسارعةً لهم في الخيراتِ. وقرئ: {يمدُّهم} على الغَيبةِ وكذلك يسارعُ ويسرعُ ويُحتمل أنْ يكون فيها ضميرُ الممدِّ بهِ. وقرئ: {يُسارع} مبنيًّا للمفعولِ.
{إِنَّ الذين هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ} استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ مَن له المسارعةُ في الخيرات إثرَ إقناطِ الكُفَّار عنها وإبطالِ حسبانهم الكاذبِ أي من خوفِ عذابهِ حذرون.


{والذين هُم بئايات رَبَّهِمْ} المنصوبة والمنزلةِ {يُؤْمِنُونَ} بتصديقِ مدلولِها {والذين هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ} شِرْكاً جليًّا ولا خفيًّا، ولذلك أُخِّر عن الإيمانِ بالآياتِ، والتَّعرضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ في المواقع الثَّلاثةِ للإشعارِ بعلِّيتها للإشفاقِ والإيمانِ وعدمِ الإشراكِ.
{والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ} أي يُعطون ما أعطوه من الصَّدقاتِ. وقرئ: {يأتون ما أتوا} أي يفعلون ما فعلُوه من الطَّاعاتِ وأيّاً ما كان فصيغةُ الماضي في الصِّلة الثَّانيةِ للدِّلالة على التَّحقُّق كما أنَّ صيغة المضارعِ في الأُولى للدِّلالة عن الاستمرار {وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} حالٌ من فاعلِ يُؤتون أو يأتون أي يُؤتون ما آتوه أو يفعلون من العباداتِ ما فعلُوه والحالُ أنَّ قلوبهم خائفةٌ أشدَّ الخوفِ {أَنَّهُمْ إلى رَبّهِمْ راجعون} أي من أنَّ رجوعهم إليهِ عزَّ وجلَّ على أنَّ مناطَ الوَجَلِ ألاَّ يُقبلَ منهم ذلك وألاَّ يقعَ على الوجهِ اللاَّئقِ فيُؤاخذُوا به حينئذٍ لا مجرَّدُ رجوعهم إليه تعالى وقيل لأنَّ مرجعَهم إليه تعالى. والموصولاتُ الأربعةُ عبارةٌ عن طائفةٍ واحدةٍ متَّصفةٍ بما ذُكر في حيِّزِ صِلاتِها من الأوصافِ الأربعةِ لا عن طوائفَ كلُّ واحدةٍ منها متَّصفةٌ بواحدٍ من الأوصافِ المذكورةِ، كأنَّه قيلَ {إِنَّ الذين هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ والذين هُم بئايات يُؤْمِنُونَ} إلخ وإنَّما كُرِّر الموصولُ إيذاناً باستقلالِ كلِّ واحدةٍ من تلكَ الصِّفاتِ بفضيلةٍ باهرةٍ على حيالِها، وتنزيلاً لاستقلالها منزلة استقلالِ الموصوفِ بها.
{أولئك} إشارةٌ إليهم باعتبارِ اتِّصافهم بها. وما فيهِ من مَعْنى البُعدِ للإشعارِ ببُعدِ رُتبتِهم في الفضلِ أي أولئكَ المنعُوتون بما فُصِّلَ من النُّعوتِ الجليلةِ خاصَّةً دُونَ غيرِهم {يسارعون فِى الخيرات} أي في نيلِ الخيراتِ التي من جُملتها الخيراتُ العاجلةُ الموعودةُ على الأعمالِ الصَّالحةِ كما في قوله تعالى: {فاتاهم الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاخرة} وقوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِ النبوة والكتاب} فقد أثبتَ لهم ما نُفيَ عن أضدادِهم خلا أنَّه غيَّر الأسلوبَ حيثُ لم يقُلْ أولئكَ نُسارع لهم في الخيراتِ بل أسندَ المسارعة إليهم إيماءً إلى كمالِ استحقاقهم لنيل الخيرات بمحاسنِ أعمالهِم. وإيثارُ كلمةِ في على كلمةِ إلى للإيذان بأنَّهم متقلِّبون في فُنون الخيراتِ لا أنَّهم خارجُون عنها متوجِّهون إليها بطريق المُسارعة كما في قوله تعالى: {وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ} الآية {وَهُمْ لَهَا سابقون} أي إيَّاها سابقون واللاَّمُ لتقويةِ العملِ كما في قوله تعالى: {هُمْ لَهَا عاملون} أي ينالونَها قبل الآخرةِ حيثُ عُجِّلتْ لهم في الدُّنيا وقيل المرادُ بالخيراتِ الطَّاعاتُ. والمعنى يرغبون في الطَّاعاتِ والعباداتِ أشدَّ الرَّغبةِ وهم لأجلها فاعلون السَّبقَ أو لأجلِها سابقون النَّاسَ والأوَّلُ هو الأولى.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9